فلج الخطمين .. شــاهد عـلى عبقريــة الإنســـان العُمـــاني في تطويع التضاريس الصلبة وشق القنوات المائية
تمثل الأفلاج دلالات على عبقرية الإنسان العُماني منذ القدم وقدرته على الابتكار، ومنها فلج الخطمين الذي بني في عهد الإمام سلطان بن سيف الأول من غنائم معركة ديو البحرية التي انتصر فيها العُمانيون على البرتغاليين عام 1668م، ولذلك عندما صنع العُماني تاريخه كان صلبا واستثنائيا، لأنه قُدّ من صلابة الجبال وشموخها الذي يطاول السماء، ولا غرابة إذن أن يستطيع العُماني تطويع التضاريس الصلبة، ويشق في أعماقها قنوات بمئات الأمتار ليجري الماء الزلال، ووسط سلسلة جبال الحجر الشامخة والمليئة بالحكايات والأساطير ثمة حياة وتجارب تستحق أن توثّق لأنها تقدم نماذج في الكفاح والتضحية والصبر، ومنها شق الأفلاج إذ نقف اليوم على فلج الخطمين ببركة الموز الذي لا تزال مياهه تمخر عباب قنواته إلى يومنا هذا، مما يعكس قدرة الإنسان العُماني على الإبداع الهندسي.
وقال المكرم الدكتور عبدالله بن سيف الغافري، عضو مجلس الدولة رئيس كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج بجامعة نزوى: إن فلج الخطمين ببركة الموز في ولاية نزوى هو واحد من الأفلاج المدرجة ضمن منظومة التراث العالمي عام 2006، ومن الأفلاج الأخرى التي أُدرجت في منظومة التراث العالمي هي: فلج الجيلة بولاية صور، وفلج دراس بولاية نزوى، وفلج الملكي بولاية إزكي، وفلج الميسر بولاية الرستاق.
وأكّد أن فلج الخطمين يسمى أيضا فلج «البركة» نظرا لوقوعه في بركة الموز، ومقارنة بالأفلاج الأربعة الأخرى المدرجة في منظومة التراث العالمي يُعدّ فلج الخطمين الأحدث، وتتغذى أم الفلج من وادي المعيدن، ويزيد عمقها عن 20 مترا، وشُقّ هذا الفلج في عهد الإمام سلطان بن سيف الأول -الذي حكم ما بين أعوام 1649 - 1680م- من غنائم معركة ديو البحرية التي انتصر فيها العُمانيون على البرتغاليين في عام 1668م، وسمي فلج الخطمين بهذا الاسم نسبة إلى رواية تقول: إنه بعد جريان هذا الفلج نقص جريان مياه فلج الخطم بولاية منح، فطالب الأهالي الإمام بتعويضهم، فوافق الإمام على شق فلج آخر يكون خاصا بالأهالي، وسمى فلج الخطمين بهذا الاسم لأنه خطم ومنع نسبة من المياه من فلج الخطم، وربما تعود التسمية إلى وقوع منطقة الاحتياج المائي بين جبلين أو خطمين.
وأوضح أن فلج الخطمين يغذي ثلاثة سواعد أو روافد، ويبلغ إجمالي طول قنواته 2450 مترا، منها 2073 مترا طول القنوات تحت الأرض، و413 مترا طول السواقي المفتوحة، وتمتاز قنواته باتساعها وسهولة صيانتها، ويسقي الفلج منطقتي احتياج هما الرديدة وبركة الموز، وتبلغ مساحة الرديدة 3 هكتارات، وبركة الموز 97 هكتارا مما يشكل إجمالي المساحة المقدرة بـ100 هكتار مزروع منها 72 هكتارا، وهما هكتاران في الرديدة، و70 هكتارا في بركة الموز، والهكتار الواحد يعادل 10 آلاف متر مربع. موضحا: يصل معدل تدفق فلج الخطمين في أوقات الخصب إلى أكثر من 200 لتر في الثانية، وقد تنخفض في أوقات المحل «الجفاف» إلى حوالي 50 لترا في الثانية، ومياه فلج الخطمين عالية الجودة وهي صالحة للشرب والزراعة، إذ تبلغ الموصلية الكهربائية لمياهه 440 ميكرو سمينز لكل سم، والرقم الهيدروجين 7.6، ويأتي الناس من أماكن بعيدة لأخذ المياه من الفلج للشرب وذلك لعذوبة مياهه.
وأشار إلى أن فلج الخطمين ينقسم إلى ثلاثة أغياز «أقسام» متساوية يلتقي اثنان منها ليشكلا غيزا مستقلا يروي الأراضي المملوكة من قبل بيت المال، والقسم الثالث لأحفاد الأهالي الذين شقوا الفلج، وتقسم مياه الفلج بنظام الدوران، إذ إن دورة الري تتم في 9 أيام، كل يوم يقسم إلى بادتين، والبادة تتكون من 24 أثرا، والأثر به 24 قياسا، وهو ما يعادل دقيقة وربع الدقيقة، توزّع أنصبة المياه على النحو الآتي: 38% مملوكة من قبل أشخاص أي أملاك خاصة، و16% مملوكة من قبل الحكومة «بيت المال»، و15% أوقاف خاصة بالمساجد والمدارس الدينية، و11% مخصصة لخدمة الفلج، مشيرا إلى أن فلج الخطمين يروي مساحة واسعة من الأراضي المزروعة بالنخيل والمحاصيل الحقلية كالذرة والأعلاف، وبعض أنواع الخضار والفواكه كالأمبا «المانجو»، والليمون، والموز.
وسميت القرية التي يرويها فلج الخطمين ببركة الموز لكثرة أشجار الموز المزروعة فيها، وتستعمل مياهه للاستهلاك اليومي كالشرب والغسيل والاستحمام والوضوء، ومن أصناف النخيل التي تزرع في هذا الفلج الخلاص، والخنيزي، والخصاب، والزبد، وهلالي عُمان، والمبسلي، والنغال، والفرض، والبرني، وقام المزارعون باستبدال نخيل المبسلي بأنواع ذات قيمة أكبر كالخلاص.
وأضاف: إن قناة الفلج تمر داخل حصن بيت الرديدة الذي كان به اصطبل للخيول، ويوجد حوض لسقاية الخيول من ماء الفلج، وبعد حصن الرديدة يمر الفلج بالقرب من مسجد اليعاربة الذي بني عام 1649م، وبعد ذلك توجد حمامات للرجال وأخرى للنساء، وأماكن لغسيل الملابس والأواني، وينقسم الفلج بعد مسجد اليعاربة بقليل إلى غيزين، الغيز العلوي الذي يعادل ثلثي جريان الفلج، والغيز السفلي ثلث الفلج، وتمر هذه الأغياز بداخل الحارات والبيوت، وقد استعملت مياه فلج الخطمين لتكييف حرارة البيوت، حيث تبرّد المياه البيت في الصيف، وتدفئه في الشتاء، لأن حرارة ماء الفلج شبه ثابتة ولا تتأثر كثيرا بتغير حرارة الهواء، مضيفا: يستخدم المزارعون الآن التوقيت الزوالي والساعات الحديثة لتوزيع مياه الري، وكانوا في السابق يستخدمون اللمد أو المزولة الشمسية بالنهار، والنجوم بالليل، ومكان الساعة الشمسية لا يزال موجودا غير أن هيكلها قد اختفى، وكانت تلك الساعة الشمسية تشبه المزولة الشمسية «العلم» لفلج أبو الشياطين بولاية عبري، إذ كانت تتكون من عصا قصيرة مصنوعة من الحديد ومرتكزة على صخرة مفلطحة، والصخرة معلمة بخطوط تمثل أسهم الماء «الآثار» المختلفة، ويبلغ عدد النجوم التي كانت تستعمل في السابق لتحديد أوقات الري ليلا واحدا وعشرين نجما لكل نجم أثرين، وهذه النجوم هي كوي، وكوي الأخير، والموفي، والغراب، والأدم، والسعد، والكوكبين، بالإضافة إلى الفتح، والثريا، والقابل، والشابك، والظلمي، والشعرى، والجنب، والذراعين، والبطين، والثقيلة، والميثاب، والثريا وبو قابل.
وقال رئيس كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج: توجد الكثير من المباني الأثرية في فلج الخطمين أهمها حصن بيت الرديدة الشامخ الذي رمم حديثا، ومسجد اليعاربة، وحارة السيباني، وقنطرتين ضخمتين يسمى مفردها بالمليل أو الغوقة وتستخدم لنقل الفلج، وتُعد إحداها الأكبر على مستوى سلطنة عُمان، ولا تزال تستعمل إلى الآن، كما توجد الكثير من التراكيب الهندسية الأخرى، مثل: الغراق فلاح وأحواض مخصصة للسباحة وحمامات ومساجد وحارات، ومن الروايات الشفهية حول هذا الفلج إن امرأة عجوزا كانت تأتي إلى موقع بناء حصن بيت الرديدة كل صباح تراقب العمل أثناء بناء الحصن وتضحك عليهم، واستمر بها الحال هكذا إلى أن انزعج العمال منها فذهب المشرف عليهم إلى الإمام سلطان بن سيف ليشتكي من هذه العجوز، فطلبها الإمام، وحينما جاءت، سألها عن سبب تصرفها، فقالت: «الأفعى من هين يمسكوها» أي من أين يمسك الثعبان، ثم انصرفت، ففهم الإمام مغزى سؤال العجوز التي قصدت منه أن بناءهم للقلعة في نهاية القرية كان خطأ، وذلك أن القلاع والحصون تبنى في أعلى القرية بالقرب من منابع الأفلاج والسواقي لحمايتها من الأعداء، فأمر الإمام بإيقاف البناء وإعادة بناء القلعة في أعلى القرية عند شريعة الفلج.
تعليق